الجمعة، 15 نوفمبر 2013

فضل الشيخين وتوضيح مقاصد الصحيحين

بسم الله الرحمن الرحيم نحمده و نصلي على رسوله الكريم

قال تعالى * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * الأحزاب

منذ ظهر الاسلام صنع رجالا لا ككل الرجال ، رجال تركوا الدنيا بنعيمها ونعمائها وأخلصوا أنفسهم لله تعالى ينعمون بقربه ورضاه ، رجال عرفوا أن حبّ الله تعالى لا ينال بدون حبّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ففنوا في حبّه وتمسّكوا بهديه النّبوي فكان الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم أحبّ إليهم من أبنائهم وآبائهم ومن أمّهاتهم وأزواجهم وانتقل حبّه جيلا بعد جيل حتى وصل جيلا تميّز بحبهم لجمع كلام نبيّهم وسيرته الشريفة فأفنوا حياتهم في تتبع آثاره النبوية الشريفة ودوّنوا للأمة هدي نبيّهم المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلم وحاولوا بما استطاعوا الاجتهاد لجمع أصّح ما يمكن جمعه ، من هؤلاء المخلصين سطع نجمين منيرين في سماء الهدي النبوي الشريف هما الامام البخاري والامام مسلم رحمهما الله وجزاهما خيرا .

الإمام البخاري هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه الجعفي أبو عبد الله بن أبي الحسن البخاري من مدينة بخارى في خراسان الكبرى ( أوزباكستان حاليا) ولد عام 194 ه وتوفي سنة 256 ه . مؤلفاته :التاريخ الصغير- الأوسط ، التاريخ الكبير ، القراءة خلف الامام ، قرة العينين برفع اليدين في الصلاة ، خلق أفعال العباد ، الضعفاء الصغير ، الأدب المفرد ، صحيح البخاري وكتابه صحيح البخاري اسمه الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه استغرق جمعه ستة عشرة سنة اذ انتقى 7167 نص من بين أصل 600000 الف حديث ، وقد رتب مؤلفه الضخم هذا بحيث قسمه إلى كتب كل كتاب مقسم إلى أبواب كل باب جمع فيه الاحاديث الخاصة به .وقد أتت مادة الكتاب مقسمة على(97) كتابًا بدأها بكتاب بدأ الوحي، فكتاب الإيمان، فكتاب العلم، ثم دخل في كتب العبادات الوضوء..إلخ، وختم الكتاب بكتاب التوحيد يسبقه كتاب الاعتصام بالسنة.....منقول بتصرف..
الإمام مسلم هو أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم بن ورد بن كوشاذ القشيري النيسابوري ولد بمدينة نيسابور إيران سنة 206هـ وتوفى بها سنة 261 هـ .مؤلفاته : الطبقات ، المنفردات والوحدان ، الكنى والأسماء ،التمييز ، صحيح مسلم ..ومن كتبه ومؤلفته المفقودة :طبقات التابعين ورجال عروة بن الزبير ،أولاد الصحابة ،الإخوة والأخوات ، الأقران ، أوهام المحدثين ، ذكر أولاد الحسين ، مشايخ مالك ، مشايخ الثوري ، مشايخ شعبة . وكتابه صحيح مسلم اسمه الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وايامه. استغرق جمعه
خمسة عشرة سنة اذ جمع 7275 حديثا وقد رتب مؤلفه الضخم هذا مثل البخاري فقسمه إلى 54 كتاب كل كتاب مقسم إلى أبواب تضم الأحاديث الخاصة به وقد بدأ مؤلفه بكتاب الايمان وأنهاه بكتاب التفسير ...منقول بتصرف

فالملاحظ أنّ الشيخين قد أفنيا حياتهما في البحث وقد أوليا لجمع الحديث أهمية كبرى وخصّصا له وقتا طويلا  وقد وضح الامام البخاري ما جعله يهتم بجمع الحديث في كتاب يحرص فيه على الصحيح فقط فقال :  كنّا عند إسحاق بن راهويه  فقال : لو جمعتم كتاباً مختصراً لصحيح سنة النبي . قال : فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع الجامع الصحيح .

ومن أجل الحرص على جمع الصحيح فقط فإنّ الشيخين قد اعتمدا شروطا ومعايير معينة للحكم بصحة الأسانيد * العنعنة * فكان معيار البخاري هو شرط السماع ، فبعد أن يصله الحديث مرويا بسند معين *فلان عن فلان عن فلان *يبدأ بالتحقق إن كان ثبت فعلا أن كل راوي ضمن السند  قد سمع حقا من الراوي الذي قبله فإن تحقق عنده شرط السماع كان الحديث صحيحا ، بينما اعتمد مسلم على شرط المعاصرة فمتى ثبت لديه أن كلّ راوي ضمن السند قد عاصر أو التقى الراوي الذي قبله فإن الحديث يكون صحيح عنده على شرط المعاصرة .

فمعنى أن الحديث صحيح عند البخاري أي أنّ سند الحديث صحيح على شرط السماع بينما الحديث الصحيح عند مسلم فمعناه أنّ سند الحديث صحيح على شرط المعاصرة ، وفيما بعد صحّح رجال الحديث أحاديث أخرى ثبت لديهم تحقق شرطي الشيخين فيها * السماع والمعاصرة * وكثيرا ما نسمع أنّ الحديث صحيح على شرط الشيخين والمقصود أن سند الحديث المذكور قد تحقق فيه شرط السماع الذي اشترطه البخاري كمعيار لصحة سند الحديث وتحقق فيه ايضا شرط المعاصرة الذي اشترطه مسلم كمعيار لصحة سند الحديث .

ولاشك أن الأسانيد * العنعنة * التي تحقق فيها شرط السماع أصّح من الأسانيد التي تحقق فيها شرط المعاصرة ، لأنّ معاصرة شخص لآخر لا يلزم أنّه قد سمع منه فكثيرون هم الذين نعاصرهم ولم نسمع منهم وعلى هذا يكون صحيح البخاري أصّح كتب الأحاديث من ناحية الأسانيد لأنّ معيار *السماع* أصّح وأدّق من المعايير التي اشترطها غيره في تصحيح الأسانيد ، وهذا هو المقصد الحقيقي في قولنا أن صحيح البخاري هو أصّح كتب الأحاديث وليس معناه أبدا أنّ كلّ الأحاديث التي في صحيح البخاري صحيحة سندا ، لأنّه حتى لو ثبت أن فلان قد سمع فعلا من فلان فمن يضمن لنا قطعا أنّه سمع منه هذا الحديث فقد يكون سمع منه حقا كلاما غيره وليس ملزما أنّه قطعا قد سمع منه الحديث المروى عنه وبذلك تبقى الصّحة ظنية لا قطعية . والنّتيجة : هي أنّ الصّحة الظنّية لأسانيد الأحاديث التي في صحيح البخاري التي جمعت على شرط السماع هي أصّح من الصّحة الظنية لأسانيد الأحاديث التي جمعت في كتب الأحاديث الأخرى .

هذا من ناحية السند *أي العنعنة * وقد اهتم رجال الحديث بدراسة الرّجال *الرّواة* وظهر اثر ذلك علم سمّوه *الجرح والتعديل * وكل هذا كان سببه الحرص على جمع الصحيح فقط وايصاله إلى الناس ومحاولة اقصاء وابعاد ما يمكن تمييز ضعفه أو وضعه

إلّا أن الغلو للموروث أوقع الكثيرين في الانحراف افراطا وتعصبا لجمّاع الحديث لدرجة نشأ جيل يقدس كتب الأحاديث الظنية صحّة أسانيدها ويقدّمها على القرآن الكريم وهو لا يعرف حتى معنى كونها صحيحة عند جامعها  !!!! ولا يفهم ما معنى تحقق شرط جامعها فيها !!! ولا يفقه أنّ ذلك الشرط يخص سند الحديث فقط لا متنه *نصّه* !!! ومع ذلك تجده يملأ الدنيا ضجيجا وصخبا وتعصبا .

كذلك فإن ذلك التعصّب الأخرق للموروث المقدس  أنتج طرفا آخر تعصّب لرأيه تفريطا وقد اتخذ من تعصّب الطرف الآخر حجّة ليرمي كلّ الأحاديث عرض الحائط ولأجل ذلك انتهج أسلوبا مسيئا آخرا هو التشكيك في المؤمنين السابقين والطّعن في نزاهتهم واخلاصهم وفي ورعهم وتقواهم بل ذهب لأكثر من ذلك بأن اتهم جمّاع الأحاديث من الصادقين المخلصين واعتبرهم مجرمين في نظره بل أسوء من الشيطان نفسه ، فهم في نظره سبب تخلّف الأمة ورأس كلّ بليّة .

ولو وقف العاقل مع نفسه برهة وتسائل : أيعقل أن مائات الآلاف من الأحاديث المروية عن المائات والآلاف من الرواة كلّها مجرد وهم !!!! والغريب أن تجد هؤلاء يتشدقون بحكم لأرسطو وأفلاطون وسقراط وغيرهم بينما تسوّل لهم أنفسهم أن رسولهم كان مجرد ساع للبريد أوصل كتابا ولم ينطق شارحا إياه للناس ببنت شفة !!! 

وما يستدعي الأسف أكثر أن تجد البعض لإرضاء من يطعن في الأحاديث النبوية الشريفة يستسهل تضعيف الأحاديث وتركها . بل وتجده يتعصب في تركها ولو أنّه أعطى لنفسه فرصة للتدبّر لوجد أن الاشكال في قصر فهمه لتلك الأحاديث وأن عدم فهمه لا يعطيه الحق للطعن فيها إنّما من حقّه أن يطلب لها تفسيرا .

كما وضّحنا أعلاه فإنّ جمّاع الأحاديث قد اهتموا بتصحيح الأسانيد * العنعنة * وعليه تبقى المتون * نص الحديث * بحاجة للتصحيح وهنا لابد من معيار قاطع للفصل في صحة المتن من عدمهاون  وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه في آخر الزمان تكثر الأحاديث ولا يعرف صحيحها من ضعيفها فقال اعرضوها على القرآن ، وحتى عند رجال الحديث قاعدة أنّ الحديث يرد إن عارض ما هو أوثق منه ، والحق أنّ القرآن الكريم أوثق الكل وأصّحها .

القرآن الكريم هو كلام الله تعالى والرّسول صلى الله عليه وآله وسلم طبّق القرآن الكريم على نفسه حتى كان قرآنا يمشي على الأرض وخلقه القرآن ومن كان هذا شأنه فيستحيل عقلا أن يقول كلاما يخالف القرآن الكريم إنّما يكون فعله وكلامه *سنّته وحديثه* خادمين للقرآن الكريم فيهما التبيين والتعليم والتوضيح والشرح لتعاليم الله تعالى . ومن يعتبر شرح المعلّم للمقرّر المكلّف به تشريع خارج عن المقرّر  فمن حقنا أن نشك في سلامة عقله ، والرّسول معلّم ومبيّن ومزكّي ومطهّر لأتباعه بشهادة القرآن الكريم نفسه .

إنّ العلّة التي جعلت البعض يرفض الأحاديث حسب زعمهم هي مخالفة بعضها لكتاب الله ونحن نوافقهم في هذا ونقدم لهم معيار الصّحة بأن تعرض الأحاديث على القرآن الكريم فإن وافقته فهي صحيحة والعمل بها لا يناقض العمل بالقرآن الكريم بل يعززه ، أمّا إن خالفت القرآن الكريم صراحة فنتفحصّها قبل تركها تسرّعا فلعلّ قصر فهمنا عن معانيها هو ما يجعلنا نراها بطريقة تخالف بيّنات الفرقان : إذ يمكن أن تكون تلك الأحاديث تقبل تأويلا في معانيها وبذلك تكون خادمة للقرآن الكريم لا مخالفة له كما يظن أصحاب الفهم السطحي الشكلي ، كما يمكن أن تكون تلك الأحاديث تحمل نبوءات مستقبلية تتحقق في وقتها المحدد علما أن الأحاديث المستقبلية في عمومها كشوف ورؤى تحتاج للتأويل ولا تؤخذ بحرفيتها ، فإن لم نجد لها تأويلا ولا فهما وبدت مخالفتها الصريحة للقرآن الكريم فساعتها يمكننا تركها جانبا بكل احترام فلعلّها في المستقبل تتضح معانيها ومقاصدها .

إنّ طعن الطّاعنين من طرفي النّزاع ومن يسير على سيرتهم منهجهم باطل لا يصح وهو انحراف عن جادة الصواب وضلال عن الحق ، فالشيخين رحمهما الله حفظا للأمّة هدي نبيّها بفضل الله عليهما وعملهما الجبّار ذلك يستحق منا أن نعترف لهما بالفضل علينا ، وهما بريئان من تعصّب المتعصّبين للمواريث ومن أفعالهم وغلوّهم وبريئان من تهمة تفريق الأمّة وتشتيتها .

إنّ ما يفرّق الأمّة ويضعفها هو التعصّب المقيت للرّأي والإصرار على الخطأ حتى بعد وضوحه وبيان عيوبه .

رحم الله الشيخين وجزاهما خير الجزاء وأحسن إليهما .

والصلاة والسلام على رسولنا المصطفى خاتم النبيين وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين 

أبو عماد الجزائري 

 

 

 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق